الجاسر

التكايا في السودان.. موائد الرحمة وسط ركام الحرب

متابعات الجاسر نت

بقلم د. عبد المنعم ابراهيم ادم
استاذ الاعلام بالجامعات السودانية
رئيس منظمة اساتذة الجامعات السودانية ولايه النيل الابيض

مدخل: من التصوف إلى التضامن

في خضم الحرب التي عصفت بالسودان، وتحديدًا منذ اندلاع النزاع المسلح الذي أدى إلى تدهور الأوضاع الإنسانية، برزت ظاهرة “التكايا” كأحد أوجه التكافل المجتمعي التي جسدت القيم السودانية النبيلة في أسمى صورها. التكايا، وهي تقليد اجتماعي متجذر في الثقافة الصوفية، عادت للظهور بقوة، لا كمجرد عادة دينية أو تراثية، بل كضرورة حياتية تسد رمق الجائعين وتوحد المجتمعات حول مائدة من الكرم والإيثار.

جذور التكايا: من الضيافة الصوفية إلى خدمة المحاصرين

عرفت التكايا تاريخيًا في السودان كأماكن مخصصة لاستقبال الضيوف والفقراء وعابري السبيل، تستند إلى تعاليم التصوف التي تمجد الكرم والعطاء بلا مقابل. كانت تُقام قرب المساجد والخلاوى، وتُعرف بأنها موائد الرحمن الدائمة، لا يُسأل الضيف فيها عن اسمه أو سبب حضوره. في ظل الحرب، عادت هذه الروح لتزدهر في أحياء الخرطوم والفاشر وغيرها من المدن المنكوبة، لتتحول إلى مظلة جماعية تعين الأسر المنكوبة والمواطنين المحاصرين على تجاوز محنة نقص الغذاء.

مطبخ سوداني تحت الخطر.. ما تقدمه التكايا؟

رغم الأوضاع الأمنية الهشة، وشح المواد الغذائية، تقدم التكايا يوميًا أطباقًا سودانية أصيلة تحمل عبق الريف والمجتمع المحلي. من بين أشهر ما يُطهى فيها:

– العصيدة: طبق القمح أو الذرة الذي يرافقه ملاح الويكة أو التقلية، يعد الأكثر شيوعًا وسهولة في التحضير.
– القراصة: خبز سوداني تقليدي يُغمر بالمرق الغني بالبهارات والبصل.
– الفتة: خليط من الأرز والخبز واللحم، يقدم غالبًا في المناسبات ولكنه بات يوميًا في بعض التكايا.
– الأرز باللحم: (الفته ) وجبة دسمة تُعد عندما تتوفر اللحوم، وغالبًا ما تُخصص للمناسبات الدينية أو أيام الجمعة.

هذه الأطباق لا تقدم فقط الغذاء، بل تشكل رمزًا لصمود المجتمعات في وجه الجوع والحصار، وتعيد ترابط الأحياء رغم التهجير والتشريد.

شباب الوطن.. جنود الملاعق والرحمة

يقف وراء هذه التكايا جيش غير مرئي من المتطوعين والمتطوعات، من مختلف الأعمار والانتماءات. هم شباب وشابات ينتمون إلى منظمات وطنية، ومبادرات إنسانية، وحتى مبادرات فردية، اتحدوا لهدف واحد: إطعام من لا يجد ما يسد به جوعه.

يقوم هؤلاء الشباب بجمع التبرعات، شراء المكونات، إعداد الطعام، وتنظيم التوزيع بكل حيوية وإخلاص. الكثير منهم يعمل يوميًا دون كلل، رغم انقطاع الرواتب، وغياب الدعم الرسمي. هم أبطال الظل الذين أعادوا تعريف معنى التضحية والخدمة العامة.

مشاهد من الخرطوم والفاشر.. تحدي الشح وصمود العزائم

رغم أن الحرب قسمت العاصمة الخرطوم إلى جزر معزولة، إلا أن التكايا في محلياتها الثلاثة (بحري، أم درمان، الخرطوم) واصلت عملها في ظروف غاية في الصعوبة. في بحري، تقام التكايا بجوار المساجد. في أم درمان، تمركزت في الميادين العامة، بينما تكيفت تكايا الخرطوم مع المتغيرات الأمنية فتحولت إلى مطابخ متنقلة.

أما مدينة الفاشر، التي ضربها الحصار وندرة الإمدادات، فكانت المفاجأة أن تكاياها واصلت العمل بصمت وعزيمة، معتمدة على ما تيسر من الذرة المحلية وبعض الخضر والبهارات، في مشهد يُظهر كيف يمكن للكرم أن يتغلب على الحاجة.

أكثر من وجبة.. التكايا توحد وتقوي الروح الوطنية

ما يميز التكايا السودانية ليس فقط الطعام، بل الجو العام الذي تخلقه. في لحظة تجمع الناس حول السفرة، تنتهي الفوارق الطبقية، وتسقط الهويات السياسية والقبلية. الجميع سواء، ضيوف على مائدة الوطن.

هذه اللحظة العابرة من الألفة، تمنح الأمل وتخفف من آثار الحرب النفسية، وتبني علاقات جديدة بين الناجين من ويلات النزوح والجوع. لقد أصبحت التكايا رمزا للتكافل ولـ”الوحدة على اللقمة” في بلد أنهكتهة الصراعات.

رسائل للتاريخ.. درس سوداني في الإخاء وسط الدمار

رغم أن التكايا لا تمول من منظمات دولية، ولا تحظى بتغطية إعلامية واسعة، إلا أنها كانت من أكثر أدوات الصمود فعالية خلال الحرب. هي بمثابة رد شعبي تلقائي على كارثة إنسانية، وهي درس في كيفية تحويل التراث الديني إلى فعل مقاومة وطني.

ختامي

اسال الله العلي القدير الكريم إن ينصر الله القوات المسلحة، وأن يعم السلام ربوع السودان، وأن تبقى ثقافة العطاء والكرم إحدى أبرز ما يصدره هذا البلد العظيم إلى العالم.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.