الجاسر

د. جمال الدين الطيب عبد الرحيم يكتب ….أساتذة الجامعات بين شرف المهنة وهوان المرتب ونيابة الثراء الحرام

الجاسر نت

أساتذة الجامعات بين شرف المهنة وهوان المرتب ونيابة الثراء الحرام

✒️ د. جمال الدين الطيب عبد الرحيم
Email: Gamaltayeb2@gmail.com

أساتذة الجامعات هم نبل المقاصد وشرف المهنة وعظم الرسالة، مشكاة الأنوار ومشاعل الحضارة وأساس النهضة. ثلاث مهن في وظيفة واحدة: تدريس وتدريب وبحث علمي وخدمة مجتمع، وهذا كله بمرتب هزيل لا يكفي لمهنة واحدة. مرتب لا يسمن من جوع ولا يسد من مسغبة ولا يقضي حاجة، مرتب لا يدفع مرضًا، ولا يروي طفلاً لبنًا، مرتب لا يصل الأرحام ويوقعك في نيابة الثراء الحرام. ومع كل هذا الذل والهوان، فإن عظم الرسالة وقدسية المهنة تدفع وتجبر الأساتذة لمواصلة مشوار العطاء والتضحية على حساب صحتهم وعافيتهم ورفاهية أسرهم ومستقبل أولادهم.

ثم يأتي سن المعاش، آخر المطاف ونهاية صلاحية العمر للعمل، لتبدأ معه معاناة أخرى. تبدأ بإكمال الإجراءات وتنتهي بمعاش أشد ذلة ومهانة من المرتب لمن دفع العمر ثمناً لبناء أجيال ونهضة أمة. هذه الإجراءات للحصول على المعاش تبدأ بالحصول على خلو طرف المعاشي من أي عهد عينية أو مالية من مخدمه. لكن المفاجأة الكبرى للمعاشي أن تكون آخر محطاته في نيابة الثراء الحرام. ومن خلال متابعتي لإجراءات نهاية الخدمة، والتي طلب فيها المخدم خلو طرف من نيابة الثراء الحرام، فتوجهت بسؤال لأحد المسؤولين: لماذا خلو طرف من نيابة الثراء الحرام لأساتذة الجامعات؟ فأجابني: “يا دكتور، حملة الدكتوراه في الدرجة الأولى وهي درجة قيادية. والقانون يلزم من وصل إلى هذه الدرجة أن يأتي بخلو طرف من نيابة الثراء الحرام حتى يكمل إجراءات المعاش”.

والمدهش والعجيب بالنسبة لي هو أنني لم أتمتع طوال خدمتي بمميزات الدرجة الأولى القيادية، ومطلوب مني خلو طرف من استغلالها وأنا لم أنل من مميزاتها ولو قليلاً. لم أتذوق طعم الحوافز والبدلات الدولارية ولا حتى بالجنيه السوداني، ولم أسكن في بيوت حكومية درجة أولى، ولا أجرت لي الدولة سكنًا في فيلا فاخرة أو حتى شقة مفروشة في حي راقٍ. وما ركبت عربات الدرجات القيادية، برادو، ولو بالعدم بوكس دبل كابينة (نحن فقط من حافلة لركشة وبالعدم تكتك أو خ 11).

لم ألقَ حفلات التكريم والوداع والظروف المنفوخة، والتصديق بقطعة سكنية أو دكان في السوق أو مشروع زراعي. في أحسن الأحوال يأتيك خطاب من شؤون العاملين بتاريخ انتهاء صلاحيتك للعمل في الخدمة المدنية، وبعدها تبقى الوظيفة جزءًا من شريط الذكريات المؤلمة. معقول أنني كنت في الدرجة الأولى القيادية هذه التي كانت طباشير تملأ ملابسي، وآخر اليوم كالشغال في مصنع الجير، وسهر للتحضير والتصحيح لم تنفع معه مستشفى مكة للعيون لإرجاع ما ذهب من البصر؟ معقول أن الدرجة الأولى القيادية حقنا كانت مراقبة (مجانية) ضمن ساعات العمل، والفطور سندوتش عدس ومرات معاه طحنية، وتشرب الشاي دين عند الخالة الله يرحمها؟

والعجيب في الدرجة الأولى القيادية هذه طبيعة عملها ومكانها، فهي في الجامعات خمسة أساتذة في مكتب والسكن في العشوائي والمواصلات كدارى، بينما الدرجة القيادية ذات الامتيازات الراقية في الوزارات والشركات الحكومية جنة الدولة، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب عامل بالدولة. ولو وصلت سن المعاش، فمدير أو وكيل بالتعاقد، وبالعدم مستشار بمخصصات أفضل من الدرجة القيادية الأولى ذاتها. والسبب في ذلك الحزبية البغيضة التي دمرت الخدمة المدنية بتوزيع الوظائف القيادية ذات المميزات العالية لأعضائها، وإن كانوا في الدرجة العمالية، والمحاصصات السياسية آفة الآفات التي توزع الدرجات القيادية كغنائم، وتأتي بفاقد تربوي من أحد الأحزاب، أو مجهول في بلاد الخواجات، يولى الدرجة الأولى القيادية.

ومحمد أحمد ثلاثين سنة يزحف في كل الدرجات، وقبل أن يصل للدرجة الأولى يعين فيها هؤلاء، وينزل للمعاش مقهورًا ويموت مغبونًا.

وكانت المفاجأة الكبرى لي عندما ذهبت إلى نيابة الثراء الحرام، واستقبلني وكيل النيابة شاب خلوق بتحية عطرة، وابتسامة مشرقة. ولما وجد في الخطاب كلمتي “الجامعة” و”الدكتور.. أستاذ مشارك”، رحب بي مرة ثانية وطلب مني أن أملأ إقرارًا بالذمة المالية من عشر أوراق. وأخذت أملأ الأوراق العشر كأصعب امتحان مر علي في حياتي. امتحان لولا الحرب المدمرة، كنت نلت درجة الأستاذية قمة العلم، ولن يمتحنني بعدها أحد. ومن الأسئلة التي جعلتني أندم على تدمير حياتي بالعمل في الخدمة المدنية: أسئلة من جنس “كم تملك من القطع السكنية والمشاريع الزراعية والأرصدة في البنوك؟”. بالله عليكم، الدرجة القيادية بتاعت الطباشير هذه بجيب زي الكلام؟

حقيقة نحن كنا قياديين عندما كنا بسوق ركشة، ونفرش في سوق الجمعة عشان نكمل حق السكن والعلاج ومصروفات المدارس، ونعمل للدولة بالمجان. كنا قياديين عندما كنا نأتي للعمل وندين حق المواصلات والفطور البوش، عشان ما نحرم طلابنا من العلم. كنا قياديين لأننا نعمل للدولة براتب لا يكفي أسبوع وبنصف راتب وبلا راتب في السلم والحرب. وغيرنا من القياديين يصرف خمسة أضعاف مرتباتنا بدل سفرية داخلية (آه وألف آه من درجتنا القيادية التي لم يجد لها وزير أو رئيس يخرجنا منها).

المهم، يا عبد الوظيفة، دقائق معدودة وسلمني وكيل النيابة مشكورًا إقرارًا بذمتي المالية. وفي رأسي ألف سؤال كنت أريد أن أسأله لوكيل النيابة، أهمها: لو ثبت أن في ذمتي مال للدولة ولو ألف جنيه، أكانت النيابة تعطيني خلو طرف أو تتركني حرًا طليقًا؟ وسؤال ثانٍ: لدي ملايين الجنيهات متأخرات مالية على الدولة بالسنين لم تدفعها لي الدولة، وأنا نازح ومنهوب وبالمعاش، فلمن أشتكي الدولة؟ وسؤال ثالث: إذا كان أساتذة الجامعات مستثنون من تطبيق قانون الخدمة المدنية بالقانون، أليس تطبيق سن معاش الخدمة المدنية عليهم مخالفًا للقانون؟

المهم، خرجت من نيابة الثراء الحرام بغمة في القلب، ومرارة في الفم، أجر رجلاي على بقية قوة ذهبت مع السنين، ومع ذلك كنت في أشد حالات الفرح والسرور، فقد حصلت على شهادة براءة ذمة من أكل أموال الدولة، والمال العام حق اليتامى والفقراء والمساكين. لقد حصلت على درجة الأستاذية بخلو طرفي من استغلال الوظيفة الحكومية للمنفعة الشخصية. إنه يوم تاريخي في حياتي أن أكون خاليًا من أي مسؤولية، ولو كانت في الدرجة الأولى القيادية التي يستمتع بها آخرون، ونحن نبحث عن مخارجة منها بالقانون. إنه الشرف الباذخ والنبل السامي والعفة المقدسة والطهارة الشامخة أن تنزل إلى المعاش وأنت فقير لا تستجدي أحدًا، بعد أن أفنت الدولة شبابك في خدمتها، وتركتك في آخر العمر تنتظر المصير المجهول أو القدر المحتوم. البراءة من الثراء الحرام ليست ورقة تكتب أو تحمل، فكم من الحرامين وسارقي قوت الشعب يحملونها. البراءة من الثراء الحرام تكون بطهارة يدك من المال الحرام إن كان حقًا للناس أو للدولة.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.