الجاسر

د.مالك يوسف مالك بخيت استشاري علم النفس يكتب… جرح الحرب الخفي

الجاسر نت الاخبارية

جرح الحرب الخفي

د.مالك يوسف مالك بخيت
استشاري علم النفس

في خضمّ الدمار والاقتتال والنزوح الذي عاشه السودانيون خلال السنوات الأخيرة، يبرز نوع آخر من الألم لا يُرى بالعين، لكنه ينهش الروح بصمتٍ مرير، إنه اضطراب ما بعد الصدمة النفسية (Post-Traumatic Stress Disorder – PTSD).
الاضطراب الذي أصبح ظلّاً ثقيلاً يرافق كثيراً من أبناء السودان بعد أن فقدوا الأمن، والأهل، والمنازل، ومعنى الطمأنينة ذاته.

الآلاف من السودانيين اليوم يعيشون تحت وطأة هذا الاضطراب دون تشخيصٍ أو علاجٍ واضح، لأن المجتمع لا يزال ينظر إلى الألم النفسي كضعفٍ لا كجراحٍ تحتاج إلى عناية.
بينما في الحقيقة، تشير الدراسات النفسية إلى أن الحروب تترك آثاراً نفسية تفوق آثار الرصاص، وأن نصف من عاشوا تجربة النزوح أو شهدوا القتل أو الفقد يعانون من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة بدرجات مختلفة.

تتمثل أعراض هذا الاضطراب في الكوابيس المتكررة، استرجاع مشاهد الرعب، القلق الدائم، نوبات الغضب، الأرق، العزلة، وانعدام الأمان الداخلي.
هذه الأعراض قد تظهر على الأطفال والنساء والجنود والناجين من المجازر على حدٍّ سواء.
كثير من الناجين في مدن مثل الفاشر، الخرطوم، نيالا، وكردفان يعيشون يومياً تحت تأثير الخوف المزمن، وكأن الحرب لم تنتهِ بعد داخلهم.

الأخصائيون النفسيون يؤكدون أن العلاج يبدأ بالاعتراف، فالصمت لا يشفي.

السودان اليوم بحاجة إلى برامج دعم نفسي مجتمعية، مراكز علاج للصدمات، وتدريب للكوادر في مجال الإرشاد النفسي الإنساني.

فإعادة إعمار البلاد لا تكتمل بالبناء والإسمنت، بل بترميم الأرواح المنهكة التي فقدت الأمان.

من الضروري أن تتدخل المؤسسات الرسمية والجامعات والمنظمات الإنسانية لتبني مبادرات للعلاج الجماعي، والتوعية عبر الإعلام بأنّ الصحة النفسية ليست رفاهية، بل ضرورة للحياة.

لأن من يعيش في خوفٍ دائم لا يستطيع بناء مستقبلٍ آمن، ومن لم يشفَ من الماضي، لن يقدر على المضي قدماً.

اضطراب ما بعد الصدمة ليس عيباً، بل هو ندبة إنسانية في روحٍ رأت أكثر مما تحتمل. واليوم، السودان بحاجة لأن ينظر إلى هذه الندبة بعين الرعاية لا بالإنكار. فسلام النفس هو الطريق الأول نحو سلام الوطن.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.