د. ابن عوف أحمد يكتب …… جريمة العصر ومذبحة القرن حين بكت الفاشر وخرس العالم
الجاسر نت الاخبارية
جريمة العصر ومذبحة القرن: حين بكت الفاشر وخرس العالم
بقلم: ابن عوف أحمد
لم يعرف التاريخ الحديث مشهدًا أبشع من هذا لا في كمبوديا التي غاصت في دم أبنائها ولا في رواندا التي استيقظت على صراخ المذبوحين ولا في سربرنيتسا التي حملت رماد رجالها إلى الوديان كل تلك الفظائع تراجعت أمام ما حدث في الفاشر — المدينة السودانية التي تحوّلت في أيامٍ قليلةٍ إلى شاهدٍ على انكسار الإنسانية، وإلى قبرٍ مفتوحٍ للعالم كلّه.
في الفاشر، لم تُقتل الأجساد فقط، بل قُتلت الطفولة والأمومة والذاكرة. أمٌّ تحمل طفلَيها وتركض بين الأزقة تستغيث فلا تجد غير الرصاص يردّ عليها قبل أن تسقط والطفلان بين ذراعيها. هذا المقطع واحد من مئات المقاطع التي خرجت من بين الركام، من مدينةٍ باتت تعرف أن الإنسانية يمكن أن تموت أكثر من مرة.
الذين ارتكبوا الجريمة لم يكتفوا بالقتل، بل وثّقوه. حملوا الهواتف وصوّروا المشهد، كأنهم يصنعون فيلم رعبٍ وطنيٍّ فخورٍ بدمه. أحد قادة المليشيا، الذي يُعرف بـ«أبو لولو»، ظهر في مقاطع مصوّرة يقول إنه قتل ألف مواطن بيده، ويتباهى بذلك. آخرون يتحدّون بعضهم: «كم قتلت اليوم؟» — مشهدٌ من التوحّش الصافي، حيث صار الموت رياضةً يُسجَّلُ فيها النقاط.
تلك المقاطع لم تعد أسرارًا. شاهدها العالم كلّه. نقلتها الصحف الكبرى — واشنطن بوست ونيويورك تايمز والغارديان ولو موند — مؤكدةً أن المليشيا وثّقت جرائمها بنفسها. الأقمار الصناعية، بدورها، رصدت مقابر جماعية تُحفر على عجل في أطراف الفاشر، تُدفن فيها الجثث على عتمة الليل. صور جامعة ييل (Humanitarian Research Lab) أظهرت مواقع دفنٍ جديدة، ومنازل أُحرقت بالكامل، وأحياءً أُفرغت من سكّانها. العالم يرى، لكن لا يتحرّك.
في تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية، ذُكرت كلماتٌ تزلزل الضمير: «عمليات إعدام جماعي»، «اغتصاب ممنهج»، «تطهير عرقي»، «مجاعة مصنوعة». في كل سطرٍ من تلك التقارير شهقةُ أمٍّ فقدت أبناءها. وفي كل صورةٍ من الأقمار الصناعية، لطماتُ طفلٍ لم يجد حضنًا يبكي فيه.
إنها ليست حربًا، بل مشروعُ محوٍ منظمٍ للوجود الإنساني في السودان. والمرعب أن مرتكبي الجرائم يُدركون ما يفعلون، بل يفتخرون به. يقول أحدهم في تسجيلٍ متداول: «خلّوا العالم يشوف، نحن ما خايفين». وقد رأى العالم فعلًا لكن العار أنه لم يتكلم بعد.
وفي خضمّ المأساة تكشف خيوط الدعم الإقليمي الذي سمح بتغذية آلة القتل. تقارير استخباراتية وصحفية كشفت عن نقل أسلحة وتمويل عبر قنواتٍ معروفة، بعضها يمرّ من أراضٍ تُشرف عليها دولة الإمارات. هذا الدعم الخارجي حوّل المأساة من جريمة حربٍ محلّية إلى «شراكة دولية في القتل»، وفتح الباب لمطالبة قانونية واضحة: يجب محاسبة كل من موّل أو سلّح أو سهّل هذه الجرائم.
اليوم، لم يعد في الأمر رماديّة. المليشيا التي تقتل وتُوثّق وتتباهى ليست فصيلاً عسكرياً؛ إنها آلة إرهاب. وإن أيّ تأخيرٍ في تصنيفها كمنظمةٍ إرهابيةٍ هو تواطؤٌ مع القتلة. لم يعد هناك معنى للبيانات «المعبّرة عن القلق»، ولا للزيارات الدبلوماسية الخجولة. آن أوانُ الفعل: عقوباتٌ، محاكماتٌ، تجميدٌ للأرصدة، ووقفٌ لأي دعمٍ يصل لهذه المليشيا.
لكن وسط هذا السواد، ينهض ضوءٌ صغير: أصواتُ الشعوب الحرة بدأت تتحرّك. من كل مكان خرجت دعواتٌ لمحاسبة القتلة، وجمعُ تواقيع لتصنيف قوات الدعم السريع كمنظمةٍ إرهابيةٍ دولية. إنه تحركٌ متأخر، لكنه بداية الطريق نحو العدالة. العدالة التي ربما لن تعيد الأمهات ولا الأطفال، لكنها ستمنح معنىً لموتهم.
الفاشر اليوم تشبه جرحًا مفتوحًا على جبين التاريخ. إذا تُرك بلا علاج، سيتعفّن الضمير العالمي إلى الأبد.
أُعيدوا للضحايا أسماءهم. أوقفوا الدعم. طالبوا بالمحاسبة. لا تسمحوا أن تمرّ هذه المذبحة كما مرّت غيرها.
لأن ما حدث في الفاشر ليس فصلًا من حرب، بل نهاية اختبارٍ للإنسانية نفسها — ومن يصمت، شريكٌ في الجريمة.
نداء إلى أهلي بالولاية الشمالية
يا أهل السودان الكرام، يا من لا تزال في صدوركم بقايا من دفء النيل وكرم الجدود، هؤلاء الذين وصلوا إلى الدُبّة بعد عشرة أيام من السير على أقدامٍ عاريةٍ هم منكم، من لحمكم ودمكم، من وطنٍ واحدٍ جُرِّح حتى العظم.
افتحوا لهم قلوبكم قبل بيوتكم، وامسحوا عن وجوههم غبار الرحلة الطويلة، وكفكفوا دموعهم بأيديكم، لا بدموعكم فقط. هؤلاء لا يسألون صدقة، بل يطلبون حضن وطنٍ لم يتخلَّ عنهم.
اجعلوا كل بيتٍ في الشمالية بابًا مفتوحًا لهم، كل مزرعةٍ صحنًا من طعام، كل قلبٍ سجادةً دافئةً يُصلَّى فيها الرجاء.
إنهم لاجئو الفاشر، لكنهم أبناء السودان كلّه، وأمانةُ الله في أعناقنا.
احملوهم كما تحمل الأم طفلها، واجعلوا من استقبالهم موقفًا وطنيًا يُكتب في تاريخ النبل والرجولة والرحمة.
يا أهل السودان… لا تدعوهم يذوبون في الغربة داخل وطنهم. كونوا لهم وطنًا جديدًا، حتى تعود الفاشر حيّةً كما كانت، مدينةً تصلي لا مدينةً تذبح