استشاري علم النفس د.مالك يوسف مالك بخيت يكتب….. عندما تفقد عزيزًا
الجاسر نت

د.مالك يوسف مالك بخيت
استشاري علم النفس
عندما تفقد عزيزًا
الفقد وجع لا يُكتب، ولا يُحكى، ولا يهدأ مع الوقت كما يقولون. هو جرح يسكن القلب، ينبض مع كل ذكرى، ويشتعل كلما مرّ طيف الغائب في الذاكرة. وعندما يكون الراحل عمي، ذاك الرجل الذي كان لي أبًا وسندًا ورفيقًا وصوت عقلٍ دافئًا في زمنٍ قاسٍ، فإن الألم يصبح أعمق من الكلمات، وأثقل من الصمت.
ما زلت أذكره كما لو أنه لم يرحل… ضحكته التي كانت تملأ المكان، طريقته في المناداة باسمي التي لم تشبه أحدًا، عينيه اللتين كانتا تلمعان فخرًا كلما تحدثت أمامه. كان له حضور يطمئن القلب دون أن يتكلم، كأن مجرد وجوده كان كفيلًا بأن يجعل كل شيء على ما يرام.
كان عمي أكثر من قريب، كان قلب العائلة النابض. كان إنسانًا لا يحب الظهور، لكنه حاضر في كل تفاصيلنا الصغيرة. يحمل همّ الجميع بصمت، ويساعد دون أن يُعلن، ويبتسم رغم التعب. لم يكن يحب الشكوى، كان يؤمن أن الصبر هو القوة الحقيقية، وأن الرضا هو طريق السلام. تعلمت منه أن الكرامة لا تُشترى، وأن الطيبة ليست ضعفًا، وأن الرجولة ليست صوتًا مرتفعًا، بل قلبًا يحتمل.
وحين جاء خبر رحيله… شعرت وكأن شيئًا من روحي قد انكسر. لم أستطع تصديق أن ذاك الوجه الطيب لن أراه مجددًا، وأن اليد التي كانت تمسح على رأسي في المواقف الصعبة لن تمتد بعد اليوم. كان الوداع صعبًا، وكانت الدموع لا تجف. كنت أبحث عنه في كل زاوية من البيت، في رائحة ملابسه، في كرسيه الفارغ، في صورته المعلّقة على الجدار. وكنت كل مرة أقول لنفسي: “ما زال هنا، فقط غيّر مكانه.”
رحيله جعلني أدرك أن الفقد لا يُشفى منه أحد، لكنه يُهذّبنا، يجعلنا نرى الحياة بعينٍ أخرى. بعد رحيل عمي صرت أقدّر اللحظات البسيطة، نظرة، ابتسامة، كلمة صادقة. صرت أعي أن الذين نحبهم لا يرحلون فعلًا، بل يتحولون إلى نورٍ يسكن الذاكرة، وإلى دعاءٍ نردده كل ليلة، وإلى حنينٍ لا يبهت مهما مرّ الوقت.
كلما مررتُ بضيق، أتذكره. أتذكر كيف كان يربّت على كتفي ويقول: “لا تحزن، كل شيء سيمضي.” فأبتسم رغم الألم، كأن صوته ما زال يحميني من الانكسار. علّمني عمي أن القوة لا تعني أن لا تبكي، بل أن تنهض بعد البكاء، وتكمل الطريق.
عمي الهادي مالك بخيت
رحلتَ جسدًا، لكنك ما زلت بيننا روحًا لا تغيب. أعيش على أثرك، وأستمد من ذكراك الأمل، وأتحدث عنك بكل فخرٍ وامتنان. لقد تركت فينا بصمة لا تُمحى، وقلوبًا لن تنساك ما حييت.
سلامٌ عليك في مثواك،
سلامٌ على من كان لنا أبًا حين احتجنا، وسندًا حين ضعُفنا، وحبًا لا يشبه أي حب.
عمي (الهادي مالك بخيت)
ابنك مالك يوسف مالك