الجاسر

د.مالك يوسف مالك بخيت استشاري علم النفس يكتب …. حين يرحل صانع المدن وتبقى الحكاية

الجاسر نت

د.مالك يوسف مالك بخيت
استشاري علم النفس

حين يرحل صانع المدن وتبقى الحكاية

في صباحٍ حزين من أكتوبر 2025، انطفأ ضوءٌ من أضواء الإدارة السودانية، وغاب وجهٌ ظلّ لسنواتٍ عنوانًا للإنجاز والعزم والانضباط.
رحل محمد طاهر إيلا، رجل الدولة الصارم، والإداري الذي أحب العمل أكثر من الظهور، والسياسي الذي آمن أن التنمية أصدقُ من الشعارات، وأن الوطن يُبنى بالطوب والعرق لا بالخطب والبيانات.

في القاهرة، حيث أنهكه المرض، أسدل الستار على حياةٍ حافلة بالعطاء. لكن نبأ رحيله لم يكن عابرًا — فقد ترددت أصداؤه في الخرطوم وبورتسودان والجزيرة، وفي كل مدينةٍ ترك فيها بصمة لا تُمحى.

من جبيت إلى الخرطوم… رحلة عقلٍ يعرف طريقه

وُلد محمد طاهر إيلا عام 1951 في منطقة جبيت بولاية البحر الأحمر، وسط بيئةٍ قاسية الملامح صلبة العزيمة، فنهل منها الصبر والإصرار.
تلقّى تعليمه بمدارس بورتسودان، ثم شدّ رحاله إلى الخرطوم ليلتحق بكلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم، حيث بزغ نبوغه العلمي وبرزت ميوله نحو الإدارة والتنظيم.
ولأن الطموح لا يقف عند حدود الوطن، سافر إلى المملكة المتحدة، ونال درجة الماجستير في الاقتصاد من جامعة كارديف، ليعود أكثر نضجًا وإدراكًا لطبيعة التنمية ومعناها.

بداية الصعود… من الموانئ إلى منصة القيادة

بدأ إيلا حياته المهنية في مؤسسة الموانئ البحرية، وهناك أثبت قدرته على الإدارة الصارمة والانضباط الدقيق. لم يكن يميل إلى التنظير، بل إلى التطبيق والمتابعة.
وفي زمنٍ كانت فيه الكفاءة هي المقياس، صعد سلم المسؤولية بثبات، حتى أصبح وزيرًا للطرق والجسور، ثم واليًا للبحر الأحمر عام 2005، وهي اللحظة التي بدأت فيها حكاية “صانع المدن”.

بورتسودان… المدينة التي ابتسمت بعد طول صبر

حين وصل إيلا إلى بورتسودان، كانت المدينة تشكو الإهمال والعشوائية. فجعل منها ورشة عملٍ لا تهدأ.
شقّ الطرق، ورصف الشوارع، وأضاء الليل بأنوارٍ جديدة.
أعاد تنظيم الميناء، ونظّم الأسواق، وجمّل الواجهة البحرية، فصارت المدينة كعروسٍ على ساحل البحر الأحمر، يقصدها الزوار ويتغنّى بها أهلها.

كان يعمل بصمت، لكنه يترك الأثر في كل زاوية.
كان يؤمن أن التنمية ليست ترفًا، بل حقٌّ لكل مواطن، وأن الإدارة الحقيقية هي التي تجعل المواطن يشعر بكرامته وهو يسير في شارعٍ نظيف أو يشرب من ماءٍ نقي.

رجلٌ من طرازٍ خاص

محمد طاهر إيلا لم يكن سياسيًا تقليديًا، بل رجلًا يرى في المنصب تكليفًا لا تشريفًا.
كان صارمًا في قراراته، بسيطًا في مظهره، قريبًا من الناس رغم صلابته في الميدان.
دخل مكاتب الحكومة في الصباح الباكر، وخرج منها مع غروب الشمس، متنقّلًا بين المواقع، يتفقد مشروعًا هنا ويُراجع خطة هناك.

وفي عهده، شهدت بورتسودان نهضةً خدمية جعلت أبناءها يقولون بفخر: “إيلا مرّ من هنا.”

الجزيرة… تجربة ثانية بطموحٍ أكبر

حين عُيّن واليًا على ولاية الجزيرة عام 2015، حمل معه حلم التنمية إلى قلب السودان الزراعي.
واجه تحدياتٍ سياسية وإدارية، لكنه ظلّ ثابتًا على مبادئه: العمل، الانضباط، والإنجاز.
سعى إلى إصلاح مشروع الجزيرة، وتحسين البنى التحتية، وتطوير المرافق العامة، فترك في الولاية أثرًا لا يُنسى رغم قِصر فترته.

في رئاسة الوزراء… آخر رجالات العهد

في فبراير 2019، اختير محمد طاهر إيلا رئيسًا لمجلس الوزراء في عهد الرئيس الأسبق عمر البشير، في لحظةٍ حرجة من تاريخ السودان.
حاول الرجل، رغم ضيق الوقت، أن يعيد شيئًا من الانضباط إلى مؤسسات الدولة، لكن العاصفة كانت أكبر من كل محاولاته.
وسقط النظام في أبريل من العام ذاته، ليكون إيلا آخر رئيس وزراء في عهدٍ مضى، وأول شاهدٍ على مرحلةٍ جديدة لم يشارك في رسمها.

ما بين المدح والجدل

ككل الشخصيات الكبيرة، أثار إيلا الجدل.
من رآه من قربٍ عرف فيه الإداري النزيه الحازم، ومن خاصمه في السياسة اتهمه بالمركزية والانفراد بالقرار.
لكن حتى خصومه لم ينكروا أنه رجلٌ نادر، يجمع بين الجرأة والانضباط، وأنه لو أُتيحت له الفرصة في ظرفٍ مختلف، لكان أحد بناة الدولة الحديثة بحق.

الرحيل الذي أيقظ الذاكرة

حين أُعلن نبأ وفاته، خيّم الحزن على شرق السودان كله. خرجت الجماهير في بورتسودان تودّع رجلها الذي أحبّوه بصدق.
حملوه على الأكتاف، لا كمسؤولٍ سابق، بل كأبٍ وأخٍ وصديقٍ ترك بصمته في حياتهم اليومية.

ولأن العظماء لا يرحلون تمامًا، سيبقى اسمه محفورًا في ذاكرة المدن التي أنارها، وفي وجدان الناس الذين لمسوا إنجازاته.

إيلا… مدرسة في الإدارة والوطنية

لم يكن محمد طاهر إيلا مجرد واليٍ أو رئيس وزراء؛ بل كان مدرسةً في الإدارة تقوم على الفعل قبل القول، وعلى الميدان قبل المكاتب.
كان يرى أن الوطن ليس مشروعًا سياسيًا، بل مشروع خدمةٍ وإنسان.
ومن هذا المنطلق، عاش حياته يعمل في صمتٍ ويترك الحديث للنتائج.

وربما كانت أعظم دروسه لنا أن “المنصب لا يصنع القيمة، بل من يصنع القيمة هو من يملأ المنصب بالعمل”.

خاتمة: حين ترحل الرموز تبقى الآثار

برحيل محمد طاهر إيلا، فقد السودان رجلًا من طرازٍ خاص، يجمع بين حزم القائد ودفء الوطني المخلص.
ترك إرثًا إداريًا وإنسانيًا سيظل مثالًا يُحتذى به في النزاهة والانضباط والعمل الجاد.

لقد رحل “صانع المدن”، لكن المدن التي شيّدها ستبقى تنبض بالحياة، تذكّر الأجيال بأن هذا الرجل مرّ من هنا… فخلّد اسمه بالعمل لا بالكلام.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.